ترند ريل
رئيس مجلس الإدارة
نور العاشق

في وداع نصير الوطن والمواطن والمتمرد الساخر زياد الرحباني.. كيف كانت أيامه الأخيرة وما سبب عزلته

زياد الرحباني
زياد الرحباني

 


انطلق الآلاف في رثاء الموسيقار الكبير زياد الرحباني بكلمات مؤثرة وجميلة تعكس مدى الارتباط الشخصي الذي صنعه زياد بموسيقاه وكلماته مع كل من تابع فنه أو استمع إليه على مدار أربعة عقود.

زياد الذي تمحورت أعماله حول نقد الواقع اللبناني والاجتماعي والسياسي بأسلوب فني ساخر، وقد تأسّس له جمهور كبير في لبنان والعالم العربي بسبب معالجةً أغنياته لقضايا الهوية والنزاع، عرف بانتمائه اليساري وتأييده لفكرة المقاومة، واستمر في دعم القضية الفلسطينية ومناهضة النظام السياسي التقليدي في لبنان.


شكل زياد الركيزة الثقافية الثالثة الفنية بعد والديه، وقدم رؤية جديدة للمسرح العربي المعاصر، جمعت بين الموسيقى، الكوميديا، السياسة والجرأة.


ورغم العزلة الفنية نسبياً في السنوات الأخيرة، ظل محتفظًا بمكانة فنية رفيعة لدى فئة واسعة من الجمهور والمثقفين.

يبقى رحيل زياد الرحباني خسارة كبرى للثقافة اللبنانية والعربية، فقد كان صوتًا متمرّدًا يسلّط الضوء على مواطن الظلم والمهزلة في المجتمع، بألحان حادة وفكر رأسي، يورثنا إرثًا فنيًا وسياسيًا يلهم الأجيال القادمة لعيش حياة أفضل.

توفى زياد بعد مسيرة حافلة بالتجريب، التمرد، والصدق، بعد أن صنع لنفسه مكانة لا ينافسه فيها أحد في المشهد الثقافي اللبناني والعربي، لم يكن فقط ابن فيروز، بل كان هو نفسه صوتًا صارخًا في وجه الحرب، واللاعدالة، والفراغ الذي خلّفه الوطن في قلوب محبيه.


سنواته الأولى
ولد زياد عاصي الرحباني في 1 أكتوبر 1956 في بلدة أنطلياس، كطفلٍ ينتمي إلى أكثر البيوت الفنية أثرًا في تاريخ لبنان، والده عاصي الرحباني أحد أعمدة الموسيقى اللبنانية، ووالدته فيروز، الصوت الذي تغنّى به الصباح العربي لعقود.

في هذا البيت، لم يكن الفن خيارًا بل لغة، والموسيقى لم تكن مهنة بل تنفسًا، منذ صغره، أبدى زياد قدرة استثنائية على التأليف والتلحين، ليُفاجئ الجميع بأول عمل موسيقي قدمه لوالدته وهو لا يزال مراهقًا.

تمرد المسرح وسخرية السياسة
انطلق زياد مبكرًا في فضاء المسرح، لكن بخلاف عائلته التي تمسّكت بالشاعرية والرمزيات، ذهب هو نحو المباشر السياسي، الساخر، واللاذع، في أعمال مثل “نزل السرور” و“بالنسبة لبكرا شو؟” و“فيلم أميركي طويل”، شتم زياد الحرب، وانتقد الزعامات، وتوجّه إلى جمهور يعاني مثله، لا جمهور يصفّق فقط.


كان المسرح عند زياد خندقًا فكريًا، ساحة اشتباك لغوي وموسيقي، يختلط فيها الضحك بالمرارة، والنقد بالحب، والحلم بالفجيعة، لغته كانت الشارع، والموسيقى كانت الجاز، والهدف: أن يكون الفن أداة وعي لا ترف.


الحب، الحرب، الموسيقى
خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بقي زياد في بيروت، متحديًا الانقسامات الطائفية، مستمرًا في إنتاج أعماله، ومنتقلًا للعيش في الجانب الغربي من المدينة بعد مجازر تل الزعتر، كان يحمل همّ المواطن العادي، ويعبّر عن يأسه من الطبقة السياسية المتكررة.


ورغم سوداوية الواقع، لم يتخلّ زياد عن الموسيقى، بل قرر أن يجددها، يمزج الجاز بالتراث، ويكتب لفيروز أغانٍ خالدة مثل كيفك إنت؟، بكتب اسمك يا حبيبي، إيه في أمل، لتغدو تلك الألحان عزاءً حزينًا وراقيًا لكل من فقد شيئًا في الحرب.


زياد الإنسان العاطفي
لم يكن زياد يومًا فنانًا محايدًا، كان مناصرًا صريحًا للحزب الشيوعي اللبناني، وانتقد النظام الطائفي بحدّة، لكنه في الوقت نفسه، كان هشًا، شاعريًا، متناقضًا، يقول ما لا يُقال، ويحب ما لا يُحب، ويتصرف كما لو أن الفن يسبق كل الحسابات.


تصريحاته الجريئة، مواقفه العفوية، وظهوره النادر، كلّها أسّست لصورة “المثقف الغاضب”، الذي لا يُمكن توقعه، لكنه في عمقه، لا يريد سوى وطن يستحق الفن الذي يصنعه.

 

الحفلات الأخيرة، والعزلة المختارة
في السنوات الأخيرة، انسحب زياد من المسرح، ليكتفي بالحفلات الموسيقية والتسجيلات، فقدّم عروضًا مبهرة في “بيت الدين”، وفي دار الأوبرا بالجامعة الأمريكية في بيروت، وأطلق تسجيلات مع فنانين شبان، مؤكدًا أن الفن لا يتقادم إذا صدق.


لكن خلف الأضواء، ظل زياد مختبئًا خلف بيانو وحيد، خلف نكتة متمردة، أو خلف أغنية جديدة لفيروز لا يسمعها أحد.


وكان آخر ظهور فني له من عام ونصف مع الفنانة لطيفة التي كانت تحضر مع ألبوم كامل من ألحانه بعد تجربتها الأولى الناجحة معه في 2007. 

أما العام الماضي فقد توارى أكثر عن الأضواء ورفض الحضور لتسلم تكريمه من مهرجان الموسيقى العربية بسبب الأحداث التي يمر بها لبنان وعدم رغبته في مغادرة بلاده، غير أن قريبين منه أكدوا أن المرض وحده سبب رغبته في التواري عن الأضواء بكرامة.


إن زياد الرحباني ليس مجرد ملحن، كاتب، أو مسرحي، هو صوت الرفض الجميل، ووجدان الغضب اللبناني الراقي، لم يعش على مجد والده، ولم يتفيّأ ظل والدته، بل صار مدرسة مستقلة في الفن والفكر والجرأة.


كل أغنية من أغانيه، وكل مشهد من مسرحياته، كانت اعتراف حبّ لهذا الوطن الموجوع، لم يرضَ زياد بأن يكون مجرد “فنان مشهور”، بل اختار أن يكون مواطنًا مبدعًا، يغني ليقول: نحن نستحق أفضل.


في زمن الوجع المتكرر، تبقى أعمال زياد الرحباني صالحة لكل الأجيال موسيقى تتنفس، كلمات توقظ، وضحكة تحمل وراءها ألف دمعة.

في وداعه، لا نقول وداعًا… بل نقول: صوتك باقٍ، ونحن لا نزال ننتظر “بكرا شو؟”.

تم نسخ الرابط